استكمالا لما سردناه مسبقا وتعرفنا من خلاله علىكيفية دخول العلمانية مصر والعالم الاسلامي تعالوا لنتعرف على ابرز مفكري العلمانية والليبرالية في مصر
- الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873م)،ساهم في تعريف القارئ المصري على اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في فرنسا، فقد نشر عدداً من الكتب، كان من أبرزها "تخليص الأبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس بإيوان باريز" عام 1834م، قدّم فيه فكرة عن الحياة في باريس، وعن الثقافة والعادات والتقاليد والقيم الفرنسية، واعتبره البعض بمثابة حجر الأساس في الفكر الاجتماعي والسياسي المصري، خلال القرن التاسع عشر، كما أصدر في أواخر حياته كتاباً هاماً يمثل النضوج الفكري للطهطاوي، وهو "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" عام 1869، كما ترجم الدستور الفرنسي الذي سماه الشرطة الصادر عام 1814م، ووثيقة حقوق الإنسان، وكتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو، وغيرها من الكتب، التي تبشر بالقيم والمبادئ الليبرالية.
كما قدم لقرائه فكرة عن الدولة العلمانية، ومفهوم الدستور والقانون، وأنماط الحياة الاجتماعية، ومكانة المرأة في المجتمع الفرنسي،
وأبدى إعجاباً بالمبادئ الدستورية، ومبادئ حقوق الإنسان، وفقاً للمنظور الغربي، والرابطة الوطنية والتسامح الديني،
فقد اجتهد في تقريب صورة الغرب الأوروبي للعقل المصري،
ومما لا شك فيه أنه قد شق الطريق أمام بروز التيار الليبرالي في الفكر المصري الحديث، فقد عده بعضهم مؤسس الليبرالية المصرية.
- علي مبارك(1823-1893م) واصل متابعة جهود الطهطاوي في حقول الترجمة والتعليم. وقد ساهم في بروز ما عُرف بالتعليم العلماني أو المدني الحديث الموازي للتعليم الديني الأزهري؛ وقد أسهم في تعريف المصريين على جوانب جديدة من الحياة في الغرب في روايته "علم الدين"، التي كتبها حوالي سنة 1858م. - وبعيداً عن التصنيفات القطعية في تحديد الهوية الفكرية لهذا المفكر أو ذاك،
فإن جمال الدين الأفغاني (1839-1897م) قام بدور ليبرالي هام خلال فترة مكوثه في القاهرة (1871-1879). ولا شك أنه ساهم في تهيئة المناخ الفكري الملائم للأفكار التحررية، فقد تبنى الدعوة إلى الحرية، والأفكار الدستورية، والإستفادة من منجزات الغرب والتواصل معه، ومكافحة الاستعمار والاستبداد والظلم. وتشكل من حوله جيل من التلامذة والمعجبين، قادوا الحركة الفكرية في مصر، وتزعموا مايسمونه حركة الإصلاح هم وتلامذتهم من بعدهم.
- والشيخ محمد عبده(1849-1905م) يأتي في مقدمة تلامذة الأفغاني وتأتي أهميته في سياق الحديث عن الفكر الليبرالي في مصر، من كونه يمثل مدرسة عصرانية تدعو – كما تزعم - إلى التوفيق بين الإسلام وبين حركة المدنية الحديثة، فكان دوره حاسماً في حركة الثقافة المنفتحة على الغرب وعلومه، ، وهو رائد المنهج العصراني.لكنه لا يحبذ – مؤقتًا - ترك المجال للاتجاهات العلمانية الصرفة لتسود كل شيء. لكن غالب تلامذته اتجهوا نحو ليبرالية علمانية وفق تطور تدريجي في أعقاب وفاة شيخهم، وشرعت هذه ((((الفئة في نشر مبادئ مجتمع علماني يدعي احترام الإسلام، لكن دون أن يجعله أساساً للحياة الاجتماعية!!)))))
قبل التوسع والكلام حول تلامذة محمد عبده لابد من ذكر الدور الهام الذي قام به عبدالرحمن الكواكبي (1848-1902م) في صياغة الفكر العربي الحديث، وإسهامه بالذات في محاربة الاستبداد، وكشف مخاطره وعواقبه، واعتباره السبب الرئيس المسؤول عن واقع التخلف الذي تعانيه الأمة. وقد دافع عن الحرية، والعدالة والمساواة، من منظورمنفتح على التجربة الإنسانية، ولا شك أن هذه الأفكار تشكل جذراً أساسياً في دعم الفكر التحرري الليبرالي.
- ويُعد قاسم أمين أحد أبرز تلامذة محمد عبده الذين جنحوا تدريجياً في مجاراة تيار التغريب، وإن كان اسمه قد اقترن بالدعوة إلى "تحرير المرأة"، فإن جهده الفكري صب في التيار الليبرالي العام.
- أحمد لطفي السيد (1872-1963م) لينطلق بعيداً بالفكر الليبرالي في مصر عن النهج التوفيقي لمحمد عبده. فقد استبعد الإسلام كتشريع وكمرجعية من مشروعه الفكري، وأخذ به كجانب خُلقي وكمرحلة تاريخية من مراحل تكوين الشخصية المصرية، وأبدى إعجاباً شديداً بالفلسفة اليونانية، فعمد إلى ترجمة بعض مؤلفات أرسطو الذي كان من فرط إعجابه به يدعوه "سيدنا أرسطو رضي الله عنه" !!
واعتبره جيل من الشباب المثقف، أستاذاً لهم، فأسموه "أستاذ الجيل"، ذاك الجيل الذي تتلمذ على يديه في "الجريدة" وفي "الجامعة المصرية"، وتلقفوا أفكاره الليبرالية بكثير من الإعجاب والمتابعة.
ويكفي أن نعرف أن لطفي السيد هو الذي اشتق التسمية المناسبة برأيه للدلالة على "الليبرالية"، فأطلق عليها اسم "مذهب الحريين" وفضلها على تسميتها بمذهب "الحرية" أو مذهب "الأحرار"، وكان يسميه مذهب "اللبراليزم" أي مذهب أهل السماح. ونادى بجعل هذا المذهب أساساً للنظام السياسي والاجتماعي، ولكل علاقة بين الفرد والمجتمع، أو بين الفرد والحكومة.
كما اقترح تسمية حزب الأحرار الدستوريين عند تأسيسه باسم حزب "الحريين الدستوريين".
وإذا كان الإمام محمد عبده يدعم نهجه الإصلاحي التوفيقي بـ"الفكرة" و "الموقف"، من خلال العمل في المؤسسات، فإن لطفي السيد ومعه جيل جديد من الليبراليين مارسوا تعزيز النهج التحديثي الليبرالي، عبر "الفكرة" بالجهد الفكري والثقافي، وعبر "الموقف" بالمشاركة في أجهزة الدولة، كتولي الوزارة، ورئاسة الجامعة وغيرها من مؤسسات التوجيه.
- ويظهر د. منصور فهمي (1886-1958م) ؛ كأحد أبرز رموز التيار الليبرالي. تلقى تعليمه العالي في باريس، وناقش في عام 1913م أطروحة الدكتوراه بعنوان "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها"، وهي أول رسالة قدمها مصري في علم الاجتماع. وقد أشرف عليها المستشرق اليهودي ليفي بريل (1857-1939م)، وتضمنت نقداً لاذعاً لأحوال المرأة في المجتمع الإسلامي، بل ولموقف الإسلام من المرأة، ونهج فيها منهج النقد التاريخي، المتحرر من الالتزام بقدسية الوحي، ومفسراً نصوص القرآن الكريم، والحديث الشريف، وسلوك الرسول عليه السلام وفقاً لمناهج المستشرقين. ولا حول ولا قوة الا بالله
وعندما عاد إلى مصر، عمل مدرساً في الجامعة المصرية،
لكنه أُخرج منها عندما نشرت الصحف مقتطفات من أطروحته التي كتبها بالفرنسية، ولم يحاول إطلاقاً إعادة نشرها بالعربية، وكان عضواً في "جماعة السفور"، وفي الحزب الديمقراطي المصري، وأحد أبرز كتّاب "السياسة".
لكن منصور فهمي أعاد النظر في كثير من قناعاته الفكرية، فعاد ليبدي تفهماً لحقائق الإسلام بعيداً عن المفاهيم الاستشراقية التي خيمت على فكره في بواكير الشباب، وراح يعبر عن هذا الموقف منذ نهاية عقد العشرينيات، عبر مقالاته الصحفية، ونشاطه الفكري العام.
- ولا يمكن استكمال صورة الفكر الليبرالي في مصر دون التوقف مطولاً مع تجربة د. محمد حسين هيكل[61] (1888-1956م)
وهو ما سنتناوله في التدوينة القادمة باذن الله
فانتظرونا
خالد فتحي
الفاتح الجعفري